الثلاثاء، 5 فبراير 2013

نكتة متكررة اسمها حقائق علمية ثابتة

نكتة متكررة اسمها حقائق علمية ثابتة
أحمد مغربي

         لا شيء يدفع بعضلات بطني إلى التحرك في موجات من السخرية، مع اندفاع كثير من الأدرينالين إلى دمي وقهقهات تخرج كالانفجارات من فمي، أكثر من عبارة «حقائق علمية ثابتة». لا يأتي الضحك من الكلمات وحدها. إذ يساهم قائلوها في ضخّ الضحك في نفسي.. أحياناً. وأحياناً قليلة أكون في مزاج سيئ، فأرى أنه لا شيء يسيء إلى العِلم وفهم الناس له، أكثر من هذه العبارة التي لا تتضمن شيئًا من ذكاء العِلم. ماذا تعني «حقائق علمية ثابتة»؟ وإذا كان من شيء وحيد يمكن تعلّمه من العِلم وتاريخه، فهو أنه لا حقائق ثابتة في العِلم. بديهي القول إن هناك حقائق ثابتة في غير العِلم. بإمكان رجال الدين أن يتحدثوا عن حقائق ثابتة، لا تتغيّر ولا تتبدّل ولا تخضع لمنطق الاختبار، ولا توضع على محك التجربة والزمن. أما العِلم، فالأرجح أنه شيء آخر. أتخيّل لو جئنا بعالِم من القرن الماضي ثم أجلسناه قرب كمبيوتر متّصل مع الإنترنت، ثم طلبنا منه أن يقول لنا عن حقائق العِلم كما يعرفها. (بالطبع لن نستخدم كلمة «ثابتة» لأنها قد تثير ضحكه أيضاً). وبحثنا عن وضع هذه الحقائق، فماذا تكون النتيجة؟ قبل أن يموت، فهِم آلبرت أينشتاين أنه أخطأ بخصوص «الثابت الكوني». دعاه عالِم الفلك إدوين هابل إلى مرصد، وأظهر له برؤيا العين أن الكون يتمدّد باستمرار، ما يعني أن حدوده ليست ثابتة كما افترض أينشتاين، الذي ذهب إلى حدّ وضع أرقام محدّدة عن تلك الحدود. لا يعني القول بعدم ثبات حقائق العِلم شيئاً مُهيناً ولا يعني وضع العِلم في مرتبة متدنية. على العكس تماماً، إنه وصف لوضع العِلم وحقائقه. بالعودة الى أينشتاين، لم يعنِ نقد هابل لنظريته أنها ليست علمية، ولا أنها غير صالحة. مازال العلماء يعتمدون رؤية إينشتاين عن الكون وجاذبيته و«قماشته» وغيرها، بل إن نظرية «الانفجار الكبير» (Big Bang)، تستند إلى نظرية أينشتاين.
         في المقابل، لا يتورّع أولئك الذين يتناقشون على فضائيات العرب، بصوت مرتفع ووجوه محتقنة متوترة، عن ترداد عبارة «إن الحقيقة العلمية الثابتة تقول كذا». كم كتاب عِلم قرأ هؤلاء؟ لست أدري.
         في الغرب، يستعملون عبارات أكثر لطفاً وتواضعاً. يستعمل العلماء (وكذلك معظم السياسيين) عبارة من نوع «بحسب أفضل معارفنا حاضراً». تعني هذه العبارة أن المعرفة متغيّرة، وأن ما نعتبره أفضل معرفة، قد يصبح مجرد نقطة على خريطة العِلم الكبيرة.
         هذا يوصلنا الى سؤال عن مسألة تغيّر المعرفة العلمية. لا أحد يقول إن نظرية إسحاق نيوتن عن الجاذبية لا تستطيع أن تفسر أشياء كثيرة، بل إنها أفضل ما نعرف عن حال الأجسام وعلاقاتها وجاذبيتها حتى الآن. ولكن، لا تنطبق نظرية نيوتن على العلاقات بين مكوّنات الذرّة مثلاً، كما أن نظرية أينشتاين عن الوقت ونسبيته، أظهرت المدى المحدود الذي تنطبق فيه رؤية نيوتن عن الوقت في الكون. واستطرادًا، لا شيء يمنع أن يظهر نقد آخر لنظرية نيوتن، ربما جعلها مجرد ذكرى. لا شيء يمنع أن يتبين أن نظرية أينشتاين لا تصلح لتفسير حركة الضوء مثلاً، ما قد يضرب أساسها العميق. لكن العلماء مازالوا قادرين على العمل بناء على هذه النظرية، بانتظار أن يظهر أنها «ليست ثابتة». ليس هذا الأمر مرعبا، إلا بالنسبة لأصحاب الحنجرات العربية القوية والأصابع الممدودة باتجاه الآخر (وهو على خطأ دائماً، بالطبع...)، لأن هؤلاء يعرفون «حقائق علمية ثابتة»، على عكس حال علماء وكالة «ناسا» أو بحّاثة «معهد ماساشوستس للتقنية».
         حتى الطريقة التي ندحض فيها الرأي الآخر، تثير الضحك (والخوف أيضاً)، لأننا نعمل على نفي صوابية رأيه كلياً، فيما المسائل قد تحتمل أكثر من تفسير. هناك كتاب لإسحاق آزيموف، وهو من مُنظّري العِلم المعاصرين، يحمل عنوان «نسبية الضلال». يعطي مثالاً عن هذه النسبية. سطح الطاولة مستقيم، وحدودها ترسمها خطوط مستقيمة، لكن العلم يقول إن الخط المستقيم ربما كان جزءاً من خط مقوس دائري ضخم. إذن، من يقول إن الخط على سطح الطاولة مستقيم، هو مُحق ضمن حدود، ومن يقول إن ما نراه مستقيماً ليس سوى جزء من خط مقوّس هو محقّ أيضاً، لكن ضمن حدود أخرى، وهذه النكتة المتكررة عن «الحقائق العلمية الثابتة»، تحتاج إلى مزيد من النقاش.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق