الثلاثاء، 5 فبراير 2013

مستقبل استكشاف الفضاء

مستقبل استكشاف الفضاء
ملف من إعداد: حازم فرج
50 عامًا أمريكيًا في الفضاء
بيل آندروز*

         عندما انطلق جون غلِن في مدار حول الأرض بتاريخ 20 فبراير من عام 1962، لم يكن بذلك يدخل التاريخ وحسب، بل كان يمهد الطريق لكل من سيلحق به. وعلى الرغم من أن آلان شيبارد سبق له أن كان أول أمريكي في الفضاء (والرائد السوفييتي يوري غاغارين أول إنسان في الفضاء قبل ذلك بأشهر)، إلا أن إنجاز غلِن كان أبلغ أهمية: فقد أثبتت دوراته المدارية الثلاث حول كوكب الأرض للعالم (ولأنفسنا) أن ناسا NASA يمكنها أن تفعل ما هو أكثر من مجرد إرسال رواد أمريكيين لارتياد الفضاء: إذ قد يمكننا أن نقود عمليات استكشافه.

         كانت العقود الخمسة التي تلت رحلة غلِن حافلة بالنجاحات، وبعض الإخفاقات. إنها لم تجر دومًا بالسهولة التي خطط لها، لكن رحلات أمريكا إلى الفضاء والعودة منه مازالت تمثل بعض أعظم المآثر في تاريخ نوعنا البشري.
عقد الستينيات
         كان على أكبر بعثة أرسلتها ناسا في عقد الستينيات أن تنجز الهدف الكبير الذي أعلنه الرئيس كنيدي أمام جلسة مشتركة لمجلس الشيوخ الأمريكي بتاريخ 25 مايو 1961، بـ «إنزال إنسان على القمر وإعادته سالمًا إلى الأرض»، مع نهاية ذلك العقد.
         كان عمر «ناسا» ذاتها حينذاك يقل عن 3 سنوات، وكان برنامجها الأول للتحليق الفضائي ـ مشروع ميركيوري ـ هو أقل عمرًا أيضًا حينها. كانت أهداف البرنامج هي أن تؤكد ببساطة مقدرة البشر على العمل في الفضاء والبقاء أحياء فيه، وكان يهدف في النهاية إلى إنجاز تحليق مداري بشري حول الأرض.
         ومن بين الرواد السبعة لبرنامج ميركيوري، كان جون غلِن هو أول من أنجز تلك المأثرة في العام 1962. وتبعه ثلاثة رواد فضاء، كان منهم الرائد ليروي غوردُن كوبر Leroy Gordon Cooper . الذي كان أول أمريكي يُمضي أكثر من 24 ساعة متواصلة في الفضاء قبل انتهاء البرنامج في العام التالي.
         في غضون ذلك الوقت تقريبًا كانت هناك مجموعة من النساء اللواتي أطلقن على أنفسهن تسمية «ميركيوري 13»، وقد استعددن للانضمام إلى نظرائهن الذكور. خضعت المرشحات النهائيات الثلاث عشرة من مشروع متدربات الرائدة الفضائية الأولى ـ ذي التمويل الخاص ـ إلى الاختبارات الذهنية والجسدية القاسية ذاتها التي خضع لها الرجال، إلاّ أن الضغوط السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة حينها حالت دون إرسال نساء إلى الفضاء. وتطلب هذا الأمر أكثر من عقدين تاليين قبل أن ترى أمريكا رائدتها الفضائية الأولى.
         كان برنامج «ناسا» الفضائي الرئيس التالي هو جيميناي Gemini، الذي ركّز على الخطوات المنطقية التالية: ممارسة تقانات الالتحام بين المركبات الفضائية، والمناورات المدارية، والسير في الفضاء. ضمّت المركبة الفضائية الجديدة رائدي فضاء (من هنا كانت تسمية Gemini = التوأمان)، وسمحت بتنفيذ هذه الأهداف الأكثر تعقيدًا. وبتاريخ 3 يونيو 1965، في أثناء التحليق الرابع من 12 تحليقًا (وثاني بعثة بشرية فقط)، صار إدوارد وايت أول أمريكي «يسير» في الفضاء، وهي عملية يشار إليها بتسمية العمل خارج المركبة الفضائية (EVA).
         وأخيرًا، حان وقت يجب أن يرسل فيه فعلًا أمريكيون إلى القمر. بدأ برنامج أبولو بصورة غير موفقة عندما انتهت أولى بعثاته أبولو1 بكارثة بعد اندلاع حريق في قمرة القيادة أثناء اختبارها في منصة الإطلاق بتاريخ 21فبراير 1967، ومات في الحادثة أفراد الطاقم الثلاثة جميعًا، لتلتزم ناسا بعدها بمعرفة وإدراك الخطأ الذي حدث، ومنع مثل هذه الحوادث مستقبلًا.
         وبعد بعثات كثيرة مكنت من دنو رواد الفضاء أكثر فأكثر من القمر، وضع نيل آرمسترونغ وإدوين «باز» آلدرين، رائدا بعثة أبولو 11، أقدامهما فعلًا على قمر الأرض، ليحققا بذلك أخيرًا هدف الرئيس كنيدي. ومازالت عمليات الهبوط على القمر التي أنجزتها «ناسا» هي الحادثة الوحيدة التي سار فيها بشرٌ فوق سطح عالم آخر سوى الأرض، وهي تظل كذلك درة إنجازات برنامج أمريكا الفضائي.
عقد السبعينيات
         لكن «ناسا» لم تستمتع طويلًا بانتصاراتها الفضائية، فبعد 9 أشهر فقط، نطق الرائد جون «جاك» سويغرت بهذه الكلمات (والتي كثيرًا ما يساء اقتباسها): «إلى مركز هيوستن: لدينا مشكلة هنا». ففي أثناء رحلة أضحت روتينية تقريبًا إلى القمر، انفجرت أسطوانة غاز أكسجين على متن المركبة، لتحكم تقريبًا بنهاية البعثة وهلاك الطاقم، لكن الجهود المضنية والبراعة والمثابرة التي أبداها الطاقم مكّنت الرواد الثلاثة من العودة سالمين إلى الأرض بتاريخ 17 إبريل 1970. وعلى الرغم من القلق الذي سببته بعثة أبولو 13، فإن أربع بعثات ناجحة أخرى أرسلت روادًا إلى القمر وأعادتهم إلى الأرض، ساعدت مشاهدات الرواد والعينات التي جمعوها العلماء في إدراك ومعرفة قمرنا الأرضي بصورة أفضل من ذي قبل على الإطلاق. وعندما غادر رواد بعثة أبولو 17 سطح القمر بتاريخ 14 ديسمبر 1972، فقد كانت تلك آخر مرة زار فيها البشر جسمًا سماويًا آخر.
عقد الثمانينيات

         هيمن برنامج مكوك الفضاء، الذي يسمى رسميًا باسم منظومة النقل الفضائي (Space Transportation System STS)، على خطط ناسا الفضائية بدءًا من أواخر عقد السبعينيات في القرن الماضي. وبتاريخ 12 إبريل من عام 1981، انطلق مكوك كولومبيا في أول بعثة لهذه المركبة المتكررة الاستعمال (هي الوحيدة التي تقوم برحلات عديدة إلى المدار)، وكانت تحمل اسم STS -1. وبعد أن قامت بإنجاز 37 دورة حول الأرض في مدة زادت عن 50 ساعة، عادت السفينة المكوكية إلى الأرض، جاهزة للانطلاق في مغامرة فضائية جديدة. وبالإضافة إلى الاكتشافات العلمية التي أتى بها مكوك الفضاء، فقد شهدت هذه الفترة أيضًا ناسا وهي تضع أساسًا جديدًا في مجال إضافي آخر: التنوع في اختيار الرواد. بتاريخ 18 يونيو من عام 1983، أصبحت سالي رايد أول امرأة أمريكية تغزو الفضاء على متن المكوك تشالنجر. في سنواته القليلة الأولى، أثبت برنامج مكوك الفضاء نجاحًا عظيمًا. ومع بداية العام 1986، كانت المركبات المكوكية الأربع ـ كولومبيا، تشالنجر، ديسكفري، و آتلانتس ـ قد حلقت في 24 بعثة، انطلقت وهبطت ليلًا، ووضعت في المدار توابع اصطناعية متعددة واستعادتها منه؛ وعملت في مشروع مختبر Spacelab المتعدد الاستعمال. وفجأة.. وقعت كارثة.
         بتاريخ 28 يناير من عام 1986، انطلق مكوك الفضاء تشالنجر في بعثته رقم STS-51. وبعد 73 ثانية من إطلاقه، انفجرت المركبة في وسط الهواء، ومات في الحادثة جميع أعضاء الطاقم السبعة، بمن فيهم المعلمة كريستا ماك أوليف. كانت المأساة صدمة عنيفة لناسا التي أوقفت عمل أسطولها من المكوكات الأخرى مدة زادت عن السنتين، قامت فيهما بتحري الحادثة وأسبابها كي تضمن سلامة البعثات المستقبلية.
         وفي نهاية الأمر، عاد ملاحو الفضاء ليقتحموا الفضاء مرة أخرى بتاريخ 29 سبتمبر 1988، على متن المكوك ديسكفري في البعثة رقم STS-26. مضت بعثة «العودة إلى التحليق» بسلاسة، وأخذت ثقة أمريكا بالمكوك تزداد من جديد. في أثناء ذلك، وافق مجلس الشيوخ على بناء مركبة بديلة من قطع احتياطية لتكون هي المكوك إنديفر Endeavour. ومع نهاية العقد، أتمت ناسا إنجاز 31 بعثة فضائية للمكوكات، وبدأت تجد موطئ قدم لها في الفضاء مرة أخرى.
عقد التسعينيات
         كان العام 1983 هو موعد إطلاق منظار هبل المحدد أولًا، إلاّ أن المنظار الفضائي واجه عوائق فنية كثيرة أخّرت إطلاقه. وبعد التغلب على عدد من مرات التأجيل والتأخير (كان مردها جزئيًا إلى حادثة المكوك تشالنجر)، انطلق أخيرًا المنظار الفضائي الذي بلغ طوله 44 قدمًا (13 مترًا) في الفضاء بتاريخ 24 إبريل 1990، على متن مكوك الفضاء ديسكفري في البعثة رقم STS -31.
         بدأت ناسا العمل بسرعة لتقديم حل للمشكلة، حيث إن المنظار قد صمم وفق آلية تسمح بإجراء عملية صيانة له من قبل رواد الفضاء. وعندما انطلق المكوك إنديفر بتاريخ 2 من ديسمبر عام 1993، في البعثة الفضائية رقم STS-61، قام الرواد، وبصورة فعالة، بتزويد المنظار في مداره بمجموعة من «العدسات اللاصقة» لتصحح مشكلة التركيز البؤري. وفي الحال حولت صور هبل الواضحة جدًا المنظار من أضحوكة إلى أحد أروع أدوات البحث في تاريخ علم الفلك. وعلى مدار العقدين التاليين، ومن خلال أربع بعثات صيانة للمنظار، أسهم هبل في تقديم رؤى جديدة في دراسات وأبحاث المجرات، واكتشاف الطاقة السوداء، إضافة إلى صور رائعة لا تحصى.
         بعد العام 2000 بدأت «ناسا» القرن الجديد بداية صعبة، فبعد 15 عامًا من بعثات المكوك الفضائي الناجحة، تحطم المكوك كولومبيا أثناء عودته ودخوله الغلاف الجوي للأرض بتاريخ 1 فبراير 2003، عندما أنهى البعثة رقم STS-107. ومثلما حدث في كارثة المكوك تشالنجر، فقد مات جميع رواد طاقم المكوك السبعة. وقعت المأساة بسبب قطعة رغوة عازلة ضربت الجناح الأيسر للمكوك أثناء انطلاقه، وهي الت أدت إلى إلحاق ضرر بالدرع الحرارية للمركبة. ونتيجة ذلك، أبقت «ناسا» على أسطولها من المكوكات دون تحليق لمدة أكثر من عامين، ثم استأنفت التحليقات المكوكية ببعثة ناجحة أخرى للمكوك ديسكفري.
         وباستثناء رحلة واحدة، كانت جميع الرحلات التالية، وعددها 21، تساعد في بناء المحطة الفضائية الدولية.
         مع الاكتمال التدريجي للمحطة الدولية، صارت مكوكات الفضاء ـ وقد بلغت من العمر 30 عامًا ـ أقل فائدة. لقد خططت ناسا لإيقاف عمل الأسطول بشكل دائم مع نهاية العقد الأول من القرن الجديد ما بعد ذلك بتاريخ 14 سبتمبر 2011، أعلنت ناسا عن تصميم جديد لصاروخ ثقيل الحمولة، أطلقت عليه تسمية منظومة الإطلاق الفضائية ( Space Launch System SLS)، هو الذي سيأخذ الرواد إلى ما وراء مدار أرضي منخفض. في الوقت ذاته، وجهت الوكالة الدعوة إلى المؤسسات والهيئات الخاصة للتعامل مع مسائل التحليق الفضائي المداري. وكانت شركات مثل Virgin Galactic، وشركة SpaceX لتقانات استكشاف الفضاء، سعيدة لارتقائها إلى هذا التحدي، وقد تقرر أن تبدأ اختبارات التحليق المأهول قريبًا. في غضون ذلك، كان رواد الفضاء ينطلقون إلى المحطة الفضائية الدولية برفقة أصدقائهم الروس القدامى على متن مركبات سويوز الفضائية. هكذا يبدو للجميع أن السماء، ومع بعض الحظ، لن تكون حدًا لنا.
         والآن، في هذا الوقت، فإن مستقبل التحليق الفضائي أمر غير مؤكد. ولكن، ترى، منذ متى كان هناك أمر مؤكد؟ فسواء تعلق الأمر بتقانات ناسا، أو حتى بملاحيها الفضائيين، فإن الولايات المتحدة لم تفرغ من استكشاف الفضاء، وكما أظهرت لنا مجريات التاريخ، فعلينا توقع حدوث أي أمر.
----------------------------------------
* محرر مساعد في مجلة Astronomy

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق