الثلاثاء، 5 فبراير 2013

ابن رشد.. في جوهر الأجرام السماوية

ابن رشد.. في جوهر الأجرام السماوية
أمير الغندور

         «لسوء الحظ، فإن هذا الكتاب مفقود في نسخته العربية الأصلية، لكن تم حفظه من خلال الترجمة العبرية واللاتينية لهذا النص الفلسفي المهم عن العربية آنذاك».
         بهذه الحقيقة الصادمة، يفتتح عماد نبيل كتاب «في جوهر الأجرام السماوية لابن رشد»، الصادر عن دار الفارابي، فيما يقارب الثلاثمائة صفحة. قدم لها المترجم بمقدمة وافية طويلة تصل إلى تسعين صفحة عن الكتاب وأفكاره.

         يستكمل عماد نبيل وصف أصل النسخة الحالية: «إن ترجمة النسخة العبرية عن العربية.. وصلت إلينا في عدد من المخطوطات.. لأثر منقح تم إنجازه بواسطة موسى بن يوشع الناربان والمتوفي عام 1362.. والتي نجهل معرفة مترجمها (العبري).. أما الترجمة اللاتينية للنسخة العربية، فيبدو أنه قد تم إنجازها على يد مايكل سكوت في النصف الأول من القرن الثالث عشر. ولحسن الحظ فقد تم حفظ هذه الترجمة بنسختها اللاتينية».
         بالطبع هناك الكثير من الدلالات المؤسفة لعملية فقدنا لكتاب ابن رشد هذا لمدة تقارب الألف عام، ومثلها من الدلالات المؤسفة لعملية استعادتنا للكتاب إلى لغته العربية فقط من خلال ترجماته العبرية واللاتينية، لكن فلنركز على الكتاب وكاتبه ومترجمه.
مؤلفات ابن رشد:

تمثال لابن رشد في قرطبة
         يقول عماد نبيل: غطت كتابات ابن رشد مساحات واسعة.. والجزء الأكبر من نتاجه كان ينحصر في التعليقات والشروحات لكتابات أرسطو.. «إلا أن كتابات ابن رشد ليست كلها شروحات وتعليقات.. بل هناك أيضا مؤلفات أصلية وضعها ابن رشد، وهي أشهر حتى من الشروحات والتعليقات على أرسطو. من ضمنها الكتاب الحالي الذي يترجمه عماد نبيل، فهذا ليس من كتب الشروحات أو التعليقات، بل من المؤلفات الأصلية لابن رشد.
         ولهذا يقول عماد نبيل: «إلى هذه القائمة (من الشروحات) ينبغي إضافة سلسلة من مؤلفاته الفلسفية الأصلية.. بالإضافة إلى البحوث التي تتضمن حوارًا ونقدًا لآراء الآخرين.. وكذلك الكتابات اللاهوتية مثل: «تهافت التهافت».. و«فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال» و«الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة».
         ويذكر عماد نبيل كذلك مؤلفات ابن رشد في حقل الشريعة، مثل ثلاثية: المقدمة وأساس الفقه وبداية المجتهد.
ما الذي وجده ابن رشد لدى أرسطو؟

حواريات ابن رشد
         «يوضح ابن رشد أن الجزء الذي يعاني التغيرات في الموجود هو بالأحرى «الصورة»، في حين أن الجزء الذي يبقى ثابتًا وغير خاضع للتغير هو «المادة». وهذا الأخير ليس موضوعا للكون والفساد، ولكن فقط للتحول والتغير، بعبارة أخرى أن المادة هي استعداد لتقبل الصور. إذن أصبح من الضروري أن نضع موضوعًا نهائيًا لعملية الكون والفساد يكون في حالة القوة والاستعداد لكل الأشياء، ولا يمكن لهذا الموضوع أن يوجد بالفعل إلا من خلال الصورة. هذا الموضوع أو القوام هو بالحقيقة المادة الأولى والتي هي.. الاستعداد لاستقبال عدد غير محدود من الصور في عملية تعاقبية».
         في هذه الفقرة المهمة يلخص عماد نبيل الرؤية التي تبناها ابن رشد متأثرًا بأرسطو. وهذه الرؤية الأرسطية الرشدية هي من الأهمية بمكان، لأنها شرعت طريقًا جديدًا وغير مسبوق في النظر إلى العالم قبل أرسطو. فوفقا لهذه الرؤية صارت «المادة الأولى» غير الفانية من العالم، حتى الصور أيضا صارت من العالم، وبالتالي لم يعد العالم مجرد وهم أو مجرد صور زائلة انفصلت عن أصولها المثالية الحقيقية، كما ظن أفلاطون. بل صارت بالعالم أيضا مادة أولية حقيقية هي التي تقبل الصور بطبيعتها التي لا تفنى ولا تستحدث من عدم.
         ويمكن أن نقول إن هذه الرؤية الأرسطية للعالم قد مثلت وقتها انقلابًا خطيرًا في طريقة النظر للعالم. وذلك لأنها جعلت من الممكن فهم العالم وما يحركه من خلال دراسة العالم نفسه. وهذا قطع مع مناهج البحث السائدة قبل أرسطو، والتي كانت تتبنى منهجًا مختلفًا تمامًا عن منهج أرسطو، فقد كانت أغلب الفلسفات والمناهج السابقة على أرسطو، تحاول فهم العالم من خلال دراسة ما وراء العالم. حيث ظنت هذه الفلسفات والمناهج غير الأرسطية أن العالم مجرد صور وأوهام زائلة لمادة أولى حقيقية لا تنتمي لهذا العالم، بل تتضاد معه في كل شيء.
         إن الرؤية التي قدمها أرسطو تقوم على الربط العلمي بين هذا العالم وما ورائياته، وترفض الفصل الذي ساد لدرجة التضاد لدى من سبقوه بين هذا العالم والحقيقة الموجودة فيما وراء هذا العالم.
         وقد أعاد أرسطو للعالم اعتباره حين جعل العالم هو المادة الأولى التي تتوالى عليها الصور. وبالتالي أعاد أرسطو الجوهر والأساس إلى العالم نفسه. وهو ما يعني أن فهم العالم يجب أن يبدأ من فهم مادته نفسها، وبالتالي تقلص مجال الانشغال بما يقع وراء العالم من مثل وصور وأرواح لا يمكن فحصها أو درسها بشكل تجريبي حقيقي ملموس.
كيف نفهم حياة ابن رشد؟
         كان لابن رشد منهج مختلف تمامًا عن هؤلاء الغارقين في حساباتهم لإحكام السيطرة القبلية والمذهبية. فلم يعرف عنه أنه كان ممن يقفون بباب السلطان طلبًا للمال أو الجاه أو السلطة، بل كان ابن رشد يغلب حسابات العقل الباحث عن الحقيقة على حسابات البطون والجيوب الباحثة عن الامتلاء. ونلمح في المصادر التاريخية أن قصة انخراطه في ترجمة أرسطو وتقديم شروحات له قد تمت على مضض منه لفعل ما لم يكن يرغب فيه رغم أنه كان يقدر عليه.
         ومن هنا يمكننا أن نفهم مجمل حياة ومحاولات ابن رشد. فقد كانت حياة ابن رشد تدور حول البدء من أفضل منهج وجده يوصل إلى الحقيقة العقلية (وهو منهج أرسطو في زمن ابن رشد)، بغرض أن يصل إلى حد أدنى من التوافق والتلاؤم والحوار مع الحقيقة الماورائية والدينية والغيبية التي كانت سائدة حوله، فكان مشروع حياته هو أن يبطل التعارض بين الحقيقة العقلية الفلسفية والحقيقة الدينية الماورائية، ليحاول بها إنجاز الملاءمة والموافقة بين طريقين مختلفين هما طريق الفلسفة وطريق الشريعة.
لماذا الأجرام السماوية؟
         من الصعب على القارئ المعاصر أن يفهم مقصود ابن رشد بالأجرام السماوية، ذلك أن ثقافتنا التحليلية المعاصرة المعنية بالجزئيات والنافرة من الكليات، إنما تحملنا على الظن بأن المقصود بالأجرام السماوية هو كل كوكب على حدة. إلا أن ما قصده ابن رشد بالأجرام السماوية كان يعني باللاتينية Corpus Caeleste وهو ما شاع في الثقافة القديمة والوسطية على أنه السماوات والأفلاك.
         ومن المعروف أن السماوات والأفلاك تحتل مكانة مهمة جدًا في التفكير الميتافيزيقي القديم والوسيط. ولكي نفهم سر ذلك علينا أن نحاول الخروج من تحيزاتنا المعاصرة التي شغلنا فيها بناطحات السحاب عن إمعان النظر في السحاب نفسه.
         ذلك أن إنسان العصر القديم والوسيط كان يمعن ويستغرق في تأمل الأفلاك، ويسوق الفرضيات حولها. وذهب الناس في هذه الفرضيات مذاهب. فظن أغلبهم أن الأرض مركز الكون، وأنها مستوية. وقد ساد لدى الفلاسفة قبل سقراط مثل طاليس وهيراقليطس وحتى هيرودوت الشهير القول بأن الأرض مستوية وغير كروية.
         ولكن فيثاغورس في القرن السادس قبل الميلاد، كان من القلائل الذين قالوا بكروية الأرض، واقتنع أفلاطون بعده بكروية الأرض، إلا أنه سكت عن تفسير ذلك. أما أرسطو فقد تنكب لهذه المهمة وقدم التفسيرات والحجج على كروية الأرض وفصلها، وتبعه في ذلك ابن رشد.
         وتكمن أهمية «الأجرام السماوية» في أن القدماء كانوا يقسمون العالم إلى ما تحت القمر وما فوق القمر، حيث يرون أن ما تحت القمر هو عرضة للفساد والزوال، بينما ما فوق القمر من أفلاك لا يطاله الفساد ولا الزوال مثل ما يحدث في الأرض. ولذا كانت دراسة الأفلاك والسماوات (أي الأجرام السماوية) هي بمنزلة دراسة لما يعرف في الفلسفة بمبحث القديم والدائم وغير القابل للزوال.
         ويكتب ابن رشد في ترجمة عماد نبيل: «إن الجرم السماوي يتكون من طبيعتين على المنوال نفسه الذي تتكون منه الأجسام الزائلة.. باستثناء أن في حالة الأجسام الزائلة هاتين الطبيعتين توجدان على اعتبار وجود الكون والفساد فيهما، في حين أنها توجد في حالة الأجرام السماوية على اعتبار وجود الحركة فيها.. فالأجرام السماوية تمتلك الحركة.. بواسطة ذواتها... وفي حالة الشيء المتحرك بمقتضى ذاته، فإنه يتكون من طبيعتين، إحداهما تعاني الحركة، فيما تقوم الأخرى بإنتاجها.. لأن من الواضح أن الشيء لا يمكن أن يكون محركا ومتحركا في الناحية نفسها.
         وهكذا فمن الواضح أن الأجرام السماوية تتكون من طبيعتين. بناء على ذلك نريد أن نستقصي في هذا القول ما يتعلق بهاتين الطبيعتين اللتين تتكون منهما الأجسام الزائلة (أي) إحداهما «الصورة» والأخرى هي «المادة»، أي أننا نريد أن نستقصي ما إذا كانت الصورة والمادة (هنا) تحت (في العالم الأرضي) هي مماثلة لنوعية المادة والصورة في الأعلى (في عالم الأجرام السماوية)، أو أنها مختلفة في النوع.. ويتبقى لنا فقط أن نستقصي في أي اعتبار من الاعتبارات تختلف هاتان الطبيعتان (المادة والصورة) في الأجسام السماوية عن الطبيعتين في الأجسام الزائلة».
         وهذا نص طويل، إلا أنه يبرز فحوى وهدف الكتاب، وكذلك أسلوب ابن رشد في الكتابة والتحليل، والذي طوعه عماد نبيل بشكل طيب.
موقف ابن رشد من أرسطو:
         يكتب ابن رشد: «إن نقطة الانطلاق في البحث هي ما الذي تم الوصول إليه من آراء أرسطو.. لأنه لا يوجد رأي.. أكثر صحة أو يمثل نظاما أفضل من رأيه. فهو من أكثر الآراء نضوجًا وتقدمًا.. فأرسطو هو الفيلسوف الذي يمكن لنا أن نثق برأيه بخصوص العلوم (إذن) نستهل بحثنا بذكر رأي أرسطو..».
         ويوضح هذا النص موقف ابن رشد من أرسطو. فهو يعتبر أرسطو بمنزلة نقطة انطلاق واستهلال ذات مصداقية، ولكنه لا يعتبره محطة وصول ولا نقطة انتهاء.
         يقودنا هذا إلى تناول أشد الانتقادات التي تعرض لها ابن رشد وأغلب الفلاسفة المسلمين.
         فكثيرًا ما يجتر نقاد الفلسفة الإسلامية مقولة أنها كانت محض «تقليد» لليونان.
         الغريب أن هذه المقولة تعمل على تسطيح الأمور بحيث تلائم الفهم الشعبوي المتسرع الذي يعجز عن رؤية العالم إلا من خلال بديلين اثنين: إما تقليد العرب وإما تقليد اليونان. فإما أن تكون معنا وإما أن تكون ضدنا.
         وربما نجد في انتشار هذه المقولة المتهافتة ما يسميه فرويد بالإسقاط، ذلك أن أغلب من يتناقلونها إنما هم أنفسهم من «مقلدة» المذاهب المنغلقة التي ترفض الانفتاح على الآخر. وهنا يقوم المقلد بإسقاط تهمة التقليد على غيره، ليبرر لنفسه ممارسة التقليد. بل يرى هذا المقلد أن تقليده هو الأفضل والأمثل، لأنه يقلد «العرب»، بينما يقلد من يتهمه هو «اليونان».
         لذا فإن مقولة التقليد هذه تعبر عن عقلية شعبوية تهييجية تنهل من نزعة عنصرية تظن الخيارات الفكرية والفلسفية محض أدوات عسكرية للصراع العنصري المسيس. وبهذا يفقد الفكر والعلم أي مسوغ لهما، لأنهما يصبحان محض أسلحة للحشد والتهييج لا أكثر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق